بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
الميزان في تفسير
القرآن
للعلامة السيد محمد
حسين الطباطبائي
سورة
==========
ثواب الله البر للمشفقين ، ونذكر المكذبين لنعرف الفرق بينهم :
{ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ
يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ
النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ
لا تُبْصِرُونَ (15)
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ (17)
فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18)
كُلُوا وَ اشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ
زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ
امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها
كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ (23) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ
لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ (25)
قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنا وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27)
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) } الطور .
سورة الطور 52 : الآيات 11 إلى 28 ، الميزان في تفسير القرآن ج19 ص
9 .
بيان :
تذكر الآيات : من يقع عليهم هذا العذاب الذي لا ريب في تحققه و وقوعه ، و تصف حالهم
إذ ذاك ، و هذا هو الغرض الأصيل في السورة كما تقدمت الإشارة إليه .
و أما ما وقع : في الآيات من وصف حال المتقين يومئذ ، فهو من باب التطفل لتأكيد
الإنذار المقصود .
قوله تعالى : { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }.
تفريع : على ما دلت عليه الآيات السابقة من تحقق وقوع العذاب يوم القيامة ، أي إذا
كان الأمر كما ذكر ، و لم يكن محيص عن وقوع العذاب.
فويل : لمن يقع عليه ، و هم المكذبون لا محالة .
فالجملة : تدل على كون المعذبين هم المكذبين بالاستلزام ، و على تعلق الويل بهم
بالمطابقة .
أو التقدير : إذا كان العذاب واقعا لا محالة ، و لا محالة لا يقع إلا على المكذبين
، لأنهم الكافرون بالله ، المكذبون ليوم القيامة ، فويل يومئذ لهم ، فالدال على
تعلق العذاب بالمكذبين
.
هو قوله : { عَذابَ رَبِّكَ } .
لأن عذاب الله : إنما يقع على من دعاه فلم يجبه ، و كذب دعوته .
الميزان في تفسير القرآن ج19ص10 .
قوله تعالى : { الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ }.
الخوض : هو الدخول في باطل القول .
قال الراغب : الخوض : هو الشروع في الماء و المرور فيه ، و يستعار في الأمور .
و أكثر ما ورد في القرآن : ورد فيما يذم الشروع فيه انتهى .
و تنوين التنكير في : { خَوْضٍ } يدل على صفة محذوفة ، أي في خوض عجيب.
و لما كان الاشتغال : بباطل القول لا يفيد نتيجة حقة ، إلا نتيجة خيالية ، يزينها
الوهم للخائض ، سماه لعبا .
و اللعب من الأفعال: ما ليس له إلا الأثر الخيالي .
و المعنى : الذين هم مستمرون في خوض عجيب ، يلعبون بالمجادلة في آيات الله و
إنكارها و الاستهزاء بها .
قوله تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } .
الدع : هو الدفع الشديد .
و الظاهر أن : { يَوْمَ } بيان لقوله : { يَوْمَئِذٍ } .
قوله تعالى : { هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ } .
أي يقال لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون ، و المراد بالتكذيب بالنار التكذيب
، بما أخبر به الأنبياء بوحي من الله من وجود هذه النار ، و أنه سيعذب بها المجرمون
.
و محصل المعنى : هذه مصداق ما أخبر به الأنبياء ، فكذبتم به.
قوله تعالى : { أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } تفريع على قوله : {
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ } .
و الاستفهام : للإنكار ، تفريعا لهم ، أي إذا كانت هذه هي تلك النار التي كنتم
تكذبون بها ، فليس هذا سحرا ، كما كنتم ترمون إخبار الأنبياء بها أنه سحر ، و ليس
هذا أمرا
موهوما خرافيا ، كما كنتم تتفوهون به ، بل أمر مبصر معاين لكم .
فالآية في معنى قوله تعالى : { وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى
النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ (34) }الأحقاف .
و بما مر من المعنى يظهر أن : { أَمْ } ، في قوله : { أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ
} متصلة ، و قيل :منقطعة ، و لا يخلو من بعد.
الميزان في تفسير القرآن ج19ص11 .
قوله تعالى : { اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ
إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
الصلي : بالفتح فالسكون مقاساة حرارة النار ، فمعنى اصلوها ، قاسوا حرارة نار جهنم.
و قوله : { فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا } تفريع على الأمر بالمقاساة، .
الترديد : بين الأمر و النهي ، كناية عن مساواة الفعل و الترك ، و لذا أتبعه بقوله
: { سَواءٌ عَلَيْكُمْ } أي هذه المقاساة لازمة لكم لا تفارقكم سواء صبرتم أو لم
تصبروا ، فلا الصبر
يرفع عنكم العذاب أو يخففه ، و لا الجزع و ترك الصبر ينفع لكم شيئا .
و قوله : { سَواءٌ عَلَيْكُمْ } خبر مبتدإ محذوف ، أي هما سواء و إفراد { سَواءٌ }
لكونه مصدرا في الأصل.
و قوله : { إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } في مقام التعليل لما ذكر
من ملازمة العذاب و مساواة الصبر و الجزع.
و المعنى : إنما يلازمكم هذا الجزاء السيئ و لا يفارقكم ، لأنكم تجزون بأعمالكم
التي كنتم تعملونها ، و لا تسلب نسبة العمل عن عامله ، فالعذاب يلازمكم ، أو إنما
تجزون بتبعات ما
كنتم تعملون و جزائه.
قوله تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ }.
الجنة : البستان ، تجنيه الأشجار و تستره .
و النعيم : النعمة الكثيرة .
أي إن المتصفين بتقوى الله : يومئذ في جنات يسكنون فيها ، و نعمة كثيرة تحيط بهم .
قوله تعالى : { فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ
الْجَحِيمِ }.
الفاكهة : مطلق الثمرة ، و قيل : هي الثمرة غير العنب و الرمان .
و يقال : تفكه و فكه ، إذا تعاطى الفكاهة ، و تفكه و فكه إذا تناول الفاكهة .
و قد فسرت الآية بكل من المعنيين فقيل :
المعنى : يتحدثون بما آتاهم ربهم من النعيم .
و قيل المعنى : يتناولون الفواكه و الثمار التي آتاهم ربهم .
قيل: المعنى : يتلذذون بإحسان ربهم و مرجعه إلى المعنى الأول .
و قيل : معناه فاكهين معجبين بما آتاهم ربهم ، و لعل مرجعه إلى المعنى الثاني.
و تكرار :{ رَبُّهُمْ »} في قوله : { وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ }
لإفادة مزيد العناية بهم.
قوله تعالى : { كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
أي يقال لهم : كلوا و اشربوا أكلا و شربا هنيئا ، أو طعاما و شرابا هنيئا .
فهنيئا : وصف قائم مقام مفعول مطلق أو مفعول به .
و قوله : { بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ »} متعلق بقوله : { كُلُوا وَ اشْرَبُوا } أو
بقوله : { هَنِيئاً } .
الميزان في تفسير القرآن ج19ص12 .
قوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ
عِينٍ }.
الاتكاء : الاعتماد على الوسادة و نحوها ، و السرر : جمع سرير ، و مصفوفة : من الصف
أي مصطفة موصولة بعضها ببعض ، و المعن ى: متكئين على الوسائد و النمارق قاعدين
على سرر مصطفة .
و قوله : { وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ }.
المراد بالتزويج : القرن ، أي قرناهم بهن دون النكاح بالعقد ، و الدليل عليه تعديه
بالباء ، فإن التزويج بمعنى النكاح بالعقد متعد بنفسها.
قال تعالى : { زَوَّجْناكَها (37) }الأحزاب، كذا قيل.
قوله تعالى : { وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ
أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
.. } .
قيل : الفرق بين الاتباع و اللحوق ، مع اعتبار التقدم و التأخر فيهما جميعا .
أنه يعتبر في الاتباع : اشتراك بين التابع و المتبوع في مورد الاتباع .
بخلاف اللحوق : فاللاحق لا يشارك الملحوق في ما لحق به فيه .
و لات و ألات : بمعنى نقص .
فمعنى { ما ألتناهم } ما نقصناهم شيئا من عملهم بالإلحاق .
و ظاهر الآية : أنها في مقام الامتنان ، فهو سبحانه يمتن على الذين آمنوا ، أنه
سيلحق بهم ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان ، فتقر بذلك أعينهم ، و هذا هو القرينة على
أن التنوين في { بِإِيمانٍ } للتنكير دون التعظيم.
و المعنى : اتبعوهم بنوع من الإيمان ، و إن قصر عن درجة إيمان آبائهم ، إذ لا
امتنان لو كان إيمانهم أكمل من إيمان آبائهم أو مساويا له .
و إطلاق الاتباع : في الإيمان ، منصرف إلى اتباع من يصح منه في نفسه الإيمان ،
ببلوغه حدا يكلف به .
فالمراد بالذرية : الأولاد الكبار المكلفون بالإيمان ، فالآية لا تشمل الأولاد
الصغار الذين ماتوا قبل البلوغ ، و لا ينافي ذلك كون صغار أولاد المؤمنين محكومين
بالإيمان شرعا .
اللهم : إلا أن يستفاد العموم من تنكير الإيمان .
و يكون المعنى : و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ، ما سواء كان إيمانا في نفسه ، أو إيمانا
بحسب حكم الشرع.
و كذا الامتنان: قرينة على أن الضمير في قوله : { وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ
عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ : للذين آمنوا ، كالضميرين في قوله : { وَ اتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ } .
إذ قوله : وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } .
مسوق حينئذ : لدفع توهم ورود النقص في الثواب على تقرير الإلحاق ، و هو ينافي
الامتنان .
و من المعلوم : أن الذي ينافي الامتنان ، هو النقص في ثواب الآباء الملحق بهم دون
الذرية .
الميزان في تفسير القرآن ج19ص13.
فتحصل : أن قوله : { وَ الَّذِينَ آمَنُوا ... }.
استئناف : يمتن تعالى فيه على الذين آمنوا بأنه سيلحق بهم أولادهم ، الذين اتبعوهم
بنوع من الإيمان ، و إن كان قاصرا عن درجة إيمانهم ، لتقر به أعينهم ، و لا ينقص مع
ذلك من ثواب عمل الآباء بالإلحاق شيء ، بل يؤتيهم مثل ما آتاهم ، أو بنحو لا تزاحم
فيه على ما هو أعلم به .
و في معنى الآية أقوال أخر : لا تخلو من سخافة .
كقول بعضهم إن قوله : { وَ الَّذِينَ آمَنُوا } معطوف على { بِحُورٍ عِينٍ }.
و المعنى : و زوجناهم بحور عين ، و بالذين آمنوا يتمتعون من الحور العين بالنكاح ،
و بالذين آمنوا بالرفاقة و الصحبة ،.
و قول بعضهم : إن المراد بالذرية صغار الأولاد فقط .
و قول بعضهم : إن الضميرين في { وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }
للذرية ، و المعنى : و ما نقصنا الذرية من عملهم شيئا، بسبب إلحاقهم بآبائهم ، بل
نوفيهم أعمالهم من خير أو شر ثم نلحقهم بآبائهم.
و قوله : { كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ } تعليل .
لقوله : { وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }، على ما يفيده السياق
، و الرهن و الرهين و المرهون ، ما يوضع وثيقة للدين على ما ذكره الراغب .
قال : و لما كان الرهن يتصور منه حبسه ، أستعير ذلك لحبس أي شيء كان . انتهى.
و لعل هذا المعنى الاستعاري : هو المراد في الآية ، و المرء رهن مقبوض ، و محفوظ
عند الله سبحانه بما كسبه من خير أو شر ، حتى يوفيه جزاء ما عمله من ثواب أو عقاب ،
فلو نقص شيئا من عمله و لم يوفه ذلك ، لم يكن رهين ما كسب ، بل رهين بعض ما عمل ، و
امتلك بعضه الآخر غيره كذريته الملحقين به.
و أما قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ
الْيَمِينِ (39) } المدثر .
فالمراد : كونها رهينة العذاب يوم القيامة ، كما يشهد به سياق ما بعده من قوله : {
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) } المدثر .
و قيل : المراد كون المرء رهين عمله السيئ ، كما تدل عليه آية سورة المدثر المذكورة
آنفا ، بشهادة استثناء أصحاب اليمين .
و الآية أعني قوله : { كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ }.
جملة معترضة : من صفات أهل النار ، اعترضت في صفات أهل الجنة .
الميزان في تفسير القرآن ج19ص14 .
و حمل صاحب الكشاف : الآية على نوع من الاستعارة ، فرفع به التنافي بين الآيتين .
قال : كان نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح ، الذي هو مطالب به ، كما يرهن
الرجل عبده بدين عليه ، فإن عمل صالحا فكها و خلصها ، و إلا أوبقها . انتهى.
و أنت خبير : بأن مجرد ما ذكره ، لا يوجه اتصال الجملة ، أعني قوله : { كُلُّ
امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ } بما قبلها .
قوله تعالى : { وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ }.
بيان لبعض : تتماتهم و تمتعاتهم في الجنة المذكورة إجمالا ، في قوله السابق : {
كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً ....} .
و الإمداد : الإتيان بالشيء وقتا بعد وقت ، و يستعمل في الخير كما أن المد يستعمل
في الشر ، قال تعالى : { وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) } مريم .
و المعنى : أنا نرزقهم بالفاكهة و ما يشتهونه من اللحم رزقا بعد رزق ، و وقتا بعد
وقت من غير انقطاع.
قوله تعالى : { يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ }.
التنازع : في الكأس تعاطيها ، و الاجتماع على تناولها ، و الكأس : القدح ، و لا
يطلق الكأس إلا فيما كان فيها الشراب .
و المراد باللغو : لغو القول ، الذي يصدر من شاربي الخمر في الدنيا .
و التأثيم : جعل الشخص ذا إثم ، و هو أيضا من آثار الخمر في الدنيا .
و نفي اللغو و التأثيم : هو القرينة على أن المراد بالكأس التي يتنازعون فيها كأس
الخمر.
قوله تعالى : { وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ
مَكْنُونٌ }.
المراد به : طوافهم عليهم للخدمة .
قال بعضهم : قيل : { غِلْمانٌ لَهُمْ } بالتنكير ، و لم يقل : غلمانهم لئلا يتوهم
أن المراد بهم غلمانهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا ، فهم كالحور من مخلوقات
الجنة ، كأنهم لؤلؤ مكنون مخزون في الحسن و الصباحة و الصفا.
الميزان في تفسير القرآن ج19 ص 15.
قوله تعالى : { وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ }.
أي يسأل كل منهم غيره : عن حاله في الدنيا ، و ما الذي ساقه إلى الجنة و النعيم ؟
قوله تعالى : { قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ }.
قال الراغب : و الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه و يخاف ما
يلحقه .
قال تعالى : { وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } .
فإذا عدي بمن : فمعنى الخوف فيه أظهر ، و إذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر .
قال تعالى : { إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ } انتهى.
فالمعنى : أنا كنا في الدنيا ذوي إشفاق في أهلنا ، نعتني بسعادتهم و نجاتهم من
مهلكة الضلال ، فنعاشرهم بجميل المعاشرة ، و نسير فيهم ببث النصيحة و الدعوة إلى
الحق .
قوله تعالى : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ }.
المن : على ما ذكره الراغب ، الإنعام بالنعمة الثقيلة ، و يكون بالفعل و هو حسن ، و
بالقول و هو قبيح من غيره تعالى .
قال تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ
إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (17)} الحجرات .
و منه تعالى : على أهل الجنة ، إسعاده إياهم ، لدخولها بالرحمة ، و تمامه بوقايتهم
عذاب السموم .
و السموم : على ما ذكره الطبرسي ، الحر الذي يدخل في مسام البدن ، يتألم به و منه
ريح السموم .
قوله تعالى : { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ
الرَّحِيمُ }، تعليل ، لقوله : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا .. } ، كما أن قوله : {
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } تعليل له.
و تفيد هذه الآية : مع الآيتين قبلها ، أن هؤلاء كانوا في الدنيا يدعون الله
بتوحيده للعبادة و التسليم لأمره ، و كانوا مشفقين في أهلهم يقربونهم من الحق ، و
يجنبونهم الباطل ، فكان ذلك سببا لمن الله عليهم بالجنة ، و وقايتهم من عذاب السموم
.
و إنما كان ذلك : سببا لذلك ، لأنه تعالى بر رحيم ، فيحسن لمن دعاه و يرحمه .
فالآيات الثلاث في معنى قوله : { إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ
(3) } العصر .
و البر : من أسماء الله تعالى الحسنى.
و هو من البر : بمعنى الإحسان ، و فسره
بعضهم باللطيف.
الميزان في تفسير القرآن ج19 ص16 .
بحث روائي :
في الكافي : بإسناده عن أبي بكر عن أبي عبد الله عليه السلام : في قول الله عز و جل:
{ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ- أَلْحَقْنا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال : فقال : قصرت الأبناء عن عمل الآباء، فألحقوا الأبناء
بالآباء لتقر بذلك أعينهم.
أقول : و رواه أيضا في التوحيد ، بإسناده إلى أبي بكر الحضرمي عنه عليه السلام .
و في تفسير القمي : حدثني أبي عن سليمان الديلمي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه
السلام قال :
إن أطفال شيعتنا من المؤمنين تربيهم فاطمة عليها السالم .
و قوله : { أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }.
قال: يهدون إلى آبائهم يوم القيامة.
أقول : و روي في المجمع ، ذيل الحديث عنه عليه السلام مرسلا.
و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : إذا مات
الطفل من أطفال المؤمنين ، نادى مناد في ملكوت السماوات و الأرض ، ألا إن فلان بن
فلان قد مات ، فإن كان قد مات والداه أو أحدهما، أو بعض أهل بيته من المؤمنين دفع
إليه يغذوه ، و إلا دفع إلى فاطمة تغذوه حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته
من المؤمنين فيدفعه إليه .
و في الفقيه : و في رواية الحسن بن محبوب عن علي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه
السلام قال :
إن الله تبارك و تعالى: كفل إبراهيم و سارة ، أطفال المؤمنين يغذوانهم بشجرة في
الجنة ، لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من درة ، فإذا كان يوم القيامة ألبسوا و
طيبوا و أهدوا إلى آبائهم ، فهم ملوك في الجنة مع آبائهم .
و هذا قول الله تعالى : { وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيمانٍ _ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } .
و في المجمع : روى زاذان عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم :
إن المؤمنين و أولادهم : في الجنة، ثم قرأ هذه الآية.
و في الدر المنثور، أخرج البزار و ابن مردويه عن ابن عباس رفعه إلى النبي ص قال: إن
الله يرفع ذرية المؤمن إليه في درجته- و إن كانوا دونه في العمل- ثم قرأ «وَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ- أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ
مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» قال:
و ما نقصنا الآباء بما أعطينا الأبناء.
الميزان في تفسير القرآن ج19ص17 .
و فيه : أخرج الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال :
إذا دخل الرجل الجنة : سأل عن أبويه و ذريته و ولده .
فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك و عملك .
فيقول : يا رب قد عملت لي و لهم فيؤمر بإلحاقهم به ، و قرأ ابن عباس: { وَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ... } الآية.
أقول: و الآية لا تشمل الآباء المذكورين في الحديث ، و الأنسب للدلالة عليه ما ذكره
تعالى في دعاء الملائكة { رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ
أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ (8) }الآية ، المؤمن .
و في تفسير القمي : قوله : { لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ .
قال : ليس في الجنة غناء و لا فحش ، و يشرب المؤمن و لا يأثم.
{ وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ } قال: في الجنة.
==========
.
تنظيم وترتيب
الميزان في تفسير القرآن
والتفسير الموضوعي للميزان في تفسير القرآن
وإعداد الصفحة للإنترنيت
خادم
علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ
حسن جليل حردان الأنباري
موسوعة
صحف الطيبين