بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
الميزان في تفسير القرآن
 للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
التفسير الموضوعي
من موقع آية الله جعفر السبحاني :

شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام
للحكيم المتألّه والمتكلم البارع عبد الرزاق اللاهيجي (... ـ 1072 هـ )
تقديم وإشراف
العلاّمة المحقّق جعفر السبحاني
 المحقق الشّيخ أكبر أسدعلي زاده
 قم: مؤسسة الإمام الصّادق (عليه السلام)، 1429 ق . = 1387 .
الجزء الثّاني الصف والإخراج الفني السيد محسن البطاط
توزيع مكتبة التوحيد
ايران ـ قم ; سـاحة الشهداء

بسم الله الرحمن الرحيم
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالتي هِىي أَحْسَنُ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) } النحل .
صفحه 7
 

تقديم: آية الله جعفر السبحاني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين : والصلاة والسلام على من بعثه رسولاً ، يُعلّم الناس الكتاب والحكمة ، ويدعوهم إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويجادلهم بالتي هي أحسن ، وعلى أوصيائه الطاهرين الهداة المهديّين.
تفتخر : مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بإصدار الجزء الثاني من كتاب «شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام» تأليف الحكيم المتأله عبد الرزاق اللاّهيجي رضوان الله عليه، بصورة محققة مزدانة بالتعاليق .
ويشتمل هذا الجزء : على مباحث مهمة حول الماهية والوجود. واخصُّ بالذكر منها مسألة تسلسل العلل والمعاليل إلى غير نهاية.
صفحه 8
وقد أقام المصنّف براهين عشرة (1):  ـ بل أزيد ـ على امتناعه، حتّى أنَّ البرهان العاشر ربّما يقرر بوجوه مختلفة.

ولأجل إيضاح امتناع التّسلسل : في سلسلة العلل والمعاليل، وكمقدمة لما أفاده المصنّف في هذا الباب، نوضح البرهان الأَقوم الأَتم على امتناعه.

وقبل الخوض فيه والنتيجة المترتبة عليه : أودّ أَنْ أذكر ما حفظته الذاكرة بعد مضي أكثر من نصف قرن .
أعني : ما شاهدته في أوّل لقاء .
حصل بين : العلاّمة السيد الطباطبائي والشيخ المطهري رضوان الله عليهما .
وفيه تعرّف السيد عليه : ودار البحث بينهما في ذلك اللقاء حول امتناع التسلسل .
 وإليك التفصيل:
في شتاء عام 1370 هـ ش : زرت العلاّمة الطباطبائي قدس سره في بيته العامر.
 وقد كنت : أسأله عن بعض المسائل الفلسفية، وهو يجيبني عنها.
 وحينما كان الحوار : دائراً بيني وبين الأُستاذ .
فوجئنا بدخول العلمين الجليلين : الشيخ علي أصغر كرباسچيان (2) المعروف بالعلاّمة ، والشيخ الشهيد مرتضى المطهري،

________________ :هامش :
1 . والبراهين هي :
1. ما ابتكره المحقّق الطوسي وهو مشهور عنه، 2. برهان التطبيق، 3. ما استخرجه المحقّق الطوسي من برهان التطبيق، 4. ما ذكره الشيخ الرئيس في كتابي: «الإشارات» و «المبدأ والمعاد»،5. برهان الطرف والوسط، 6. برهان التّضايف، 7. برهان الحيثيات، 8. برهان الترتب، 9. برهان الأسدّ الأخصر، 10. ما يقارب برهان التطبيق وليس نفسه، 11. البراهين الّتي اخترعها بعض المتأخّرين وقُرر بوجوه خمسة. وقد اعترف المحقّق اللاهيجي في آخر المبحث بأنّ في أكثرها مجالاً المناقشة كما لا يخفى على الناقد البصير والعالم الخبير.
2 . انّ صديقنا المغفور له الشيخ علي أصغر كرباسچيان، قد غادر الحوزة العلمية في قم المقدسة عام 1376 هـ ، ونزل العاصمة طهران فأسّس فيها مدرسة ثانوية كان لها أثر بارز في تثقيف المتخرّجين منها بالعلم والمعرفة الدينيّة، تغمّده الله برحمته. أنتهى الهامش .

صفحه 9
وكان للأوّل صلة وثيقة بالعلاّمة السيد الطباطبائي : إلاّ أنّ السيد لم يكن آنذاك قد تعرّف على سماحة الشيخ الشهيد ، فأَخذ العلاّمة الطهراني بالتعريف بالشيخ المطهري ، واصفاً إيّاه بأنّه من أفاضل الحوزة ومدرّسيها ، وله باع طويل في المسائل العقلية .
 فاستقبله السيد الطباطبائي : بوجه مشرق ورحّب به أحسن ترحيب.

واستأذن الشيخُ المطهري : السيَّد الطباطبائي ، في طرح إشكاله الّذي لم يزل عالقاً بذهنه وفكره منذ زمان .
 وقال ما هذا مثاله :
إنَّ البراهين الّتي أقامها الفلاسفة  : على إبطال التسلسل وامتناعه هي براهين واقعة في غير موقعها ، فإنّ أكثرها أشبه بالبراهين الهندسية الّتي تجري وتتحكم في الأُمور المتناهية ، كبرهان التطبيق وغيره .
 والمفروض في المقام : تسلسل أُمور غير متناهية .
 فكيف يستدل : بالبراهين الّتي هي من خصائص الأُمور المتناهية على أمر غير متناه ؟
فما هو الدليل : المتقن لامتناعه ، الّذي لا يختص بالأُمور المتناهية، بل يتحكّم حتّى في ما لا يتناهى ؟

فلمّا أَتمَّ الشيخ المطهري كلامه : وبلغ النهاية في إيضاح مراده .

أخذ السيد الطباطبائي بالكلام مبتدئاً : بأنّ علاقة المعلول بالعلّة كعلاقة الوجود الرابط بالوجود النفسي ، فكما لا يتصوّر وجود الرابط دون أن يكون هناك وجود نفسي ، فهكذا لا يتصوّر تسلسل أُمور كلّها موصوفة بكونها معاليل ، دون أن يكون بينها علّة غير موصوفة بالمعلولية .
صفحه 10
وبعبارة أُخرى: انّ مثل علاقة المعلول بالعلّة كمثل علاقة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي، فكما لا تتصور معاني حرفية دون أن يكون بينها معنى أسمي، فكذلك لا يتصور تسلسل معاليل موصوفة بكونها معاليل دون أن يكون بينها علّة تامة ليست بمعلولة.

وهذا هو لبُّ : ما ذكره السيد الطباطبائي ، ولكن ببيان مفصّل سوف نوضحه تالياً.

وبعد أن سمع الشيخ المطهري هذا الجواب : استشففت ما في وجهه من سرور ،وقد امتلأ بالرضا والقبول .
فصار ذلك اللقاء : فاتحة للقاءات متواصلة .
 أضحى فيها الشيخ :
من عُشّاق العلاّمة الطباطبائي ، إذ حضر بحوثه في تدريس كتاب " الشفاء " كما حضر عليه في دراساته العليا حول أُصول الفلسفة ومبانيها الّتي نشرت باسم " أُصول الفلسفة " في أجزاء خمسة وقد علق عليها المطهري تعليقات نافعة ، نالت شهرة عالمية ، وترجمت إلى لغات أُخر.

نعم كانت العلاقات الوُدّية بينهما متبادلة : وكان السيد الطباطبائي يحب الشيخ المطهري كثيراً لما كان يلمس فيه من قوّة التفكير وعمق التدبّر، ولما استشهد العلاّمة المطهري بيد الأعداء والمنافقين .
 أجرى مراسل التلفزيون الإيراني : مقابلة مع السيد الطباطبائي ذكر فيها الأُستاذ فضائل تلميذه ومناقبه بقلب مكمد وصوت حزين ، إلى أن انقطع صوته بالبكاء والنحيب رضوان الله عليهما.
صفحه 11
 


وإليك إيضاح ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في ضمن أُمور:


الأوّل: أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة :
إن لنظرية : أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة ، دوراً كبيراً في حل الكثير من المسائل الفلسفية والكلامية المعقّدة .
وحاصل هذه النظرية :
أنّه إذا قلنا :
الإنسان موجود ، يتبادر إلى ذهننا مفهومان :
 أحدهما : مفهوم الإنسان .
 والآخر: مفهوم الوجود ، الحاكي عن تحقق فرد منه في الخارج .
 فعندئذ يقع الكلام : فيما هو الأصيل منهما ، بمعنى ما يترتب عليه الأثر في الخارج،  بعد افتراض بطلان أصالتهما معا ً.
فهل الأصيل : هو نفس الإنسان المجرّد عن التحقق ؟
 أو الأمر الثاني : المعبّر عنه بأنّه موجود ؟

 الحق هو الأمر الثاني : إذ لا ريب في أنّ مفهوم الإنسان بما هو إنسان مفهوم لا يترتب عليه أيُّ أثر ،إلاّ إذا اقترن بالوجود والتحقق ، فعندئذ يكون الثاني هو الأصيل إذ به يصير الإنسان إنساناً واقعياً حقيقياً تترتب عليه الآثار.

نعم القول بأصالة الوجود : لا يعني بأنّه ليس في الدار سوى ذات الوجود الإمكاني المطلق غير المحدد بشيء ، فإنّ ذلك على خلاف الوجدان والبرهان، إذ لا شكّ أنّ الإنسان متحقق في الخارج ، وهو ليس نفس الوجود المجرّد عن كل لون وحدّ ، فانّ ما يُتبادر من الإنسان غير ما يتبادر من الوجود.
صفحه 12
وإنّما يعني أنّ الأصيل : الّذي يترتب عليه الأثر إنّما هو الوجود، غاية الأمر أنّه متحدد بالإنسانية.
فالوجود : يؤثر في تحقق الإنسانية وجعلها أمراً واقعياً ، كما أنّ الإنسانية تكون حداً للوجود وتحديداً له من حيث درجات الوجود ومراتبه .

ولذلك قلنا في محله : إنّ نسبة الوجود إلى الماهيّة من قبيل الواسطة في الثبوت لا الواسطة في العروض .
 فكما أنّ : الوجود متحقق في الخارج ، فهكذا الإنسانية متحققة ، لكن بفضل الوجود وظله .

ولعل هذا المقدار : يكفي في إيضاح المسألة الّتي طالما كانت مثاراً للنزاع .
 وقد ألفتُ : رسالةً مستقلةً في هذا الباب ، نشرت تحت عنوان «قاعدتان فلسفيتان».

 


الثّاني: تقسيم الوجود إلى نفسي وغيري :

من الآثار المترتبة : على نظرية أصالة الوجود .
إمكان تقسيمه ـ تقسيماً ثلاثياً ـ إلى : وجود نفسي، ورابطي، ورابط .

إما الأوّل : (الوجود النفسي ) فهو عبارة عمّا استقل تصوّراً ووجوداً، وذلك كالجواهر ; مثل : الإنسان ، والحيوان ، والشجر.
فكل منها : مستقل تصوّراً ، كما أنها في وجودها غير معتمدة ـ حسب الظاهر ـ (1) على شيء.
________________ :هامش :
1 . احتراز ممّا سيوافيك من أنّ العالم الإمكاني بجواهره وإعراضه ـ بالنسبة إلى الواجب ـ ، وجود رابط قائم به من غير فرق بين أصنافه الثلاثة.

صفحه 13
وأما الثّاني : ( الوجود الرابطي ) فيراد به ما هو مستقل تصوّراً غير مستقل وجوداً ، وذلك كالأعراض,
 فإذا قلنا : «الجسم أبيض» فالمحمول في الحقيقة ـ الّذي هو البياض ـ مستقل مفهوماً غير مستقل وجوداً ، إذ هو قائم بالجسم ، ولولاه لما كان للبياض أثر في عالم الوجود.

وأما الثالث : (الوجود الرابط) فهو ما يكون غير مستقل تصوّراً ووجوداً ، وذلك كالمعاني الحرفية ، فإذا قلنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة» فكل من لفظتي «من» و «إلى» يفيدان معنى مندكاً في المتعلّق ، فالابتداء الحرفي كالانتهاء ، لا يتصوّران مستقلين ، وانّما يتصوّران في ضمن الغير، كما أنّهما غير مستقلين وجوداً وتحققاً.

هذا التقسيم الثلاثي للوجود الامكاني ـ كما قلنا في الهامش ـ إنّما هو بحسب الظاهر مع قطع النظر عن تعلقه وقيامه بمبدأ المبادئ وواجب الوجود.
 وأما بالنسبة (للوجود الإمكاني ) : إليه (إلى واجب الوجود ) فتنقلب النسبة ، ويكون الجميع بالنسبة إليه كالوجود الرابط ،والمعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي، كما سيوافيك بيانه.

 


الثالث: العلّة هو مفيض الوجود :
العلّة عند الإلهي : غيرها عند المادي .
 فالإلهي : يُطلق العلّة على مفيض الوجود ، أي من يُفيض الوجود على الأشياء ، ويخرجها من العدم ، ويصيّرها موجودة بعد أن كانت معدومة.
وعلى ذلك : فالمادة بذاتها وصورتها وجميع شؤونها معلولة لمن أعطاها الوجود والصورة واخرجها من ظلمة العدم إلى حيّز الوجود.
صفحه 14
وهذا بخلاف العلّة عند المادي : فهو يطلق لفظ العلة على المادة المتحولة إلى مادة أُخرى ، كالحطب المنقلب إلى رماد ، والوقود المنقلب إلى طاقة ، والكهرباء المنقلبة صوتاً أو حرارة أو ضوءاً.
فكأنَّ المادي : لا يعترف إلاّ بنوعين من العلل الأربعة ; العلّة المادية ، والعلّة الصورية .
ويغفل : عن العلّة الفاعلية ، والعلّة الغائية .

وعلى ضوء ذلك :
 فالكون : بمادته ، وصورته ، وغايته ، مخلوق للواجب ، موجود به ، قائم به .
وإلى ما ذكرنا يشير الحكيم السبزواري:
معطي الوجود في الإلهي فاعل *** معطي التحرك في الطبيعي قائل

 


الرابع: معنى الإمكان في الوجود غيره في الماهيّة :
توصف الماهيّة : بالإمكان ، كما يوصف الوجود به .
 غير أن : للإمكان في كل من الموردين ، معنى خاصّاً يجب أن نفرّق بينهما.

توصف الماهيّة بالإمكان ويراد به : مساواة نسبة الوجود والعدم إليها ، فإذا تصوّرنا الإنسان بجنسه وفصله ، نجد فيه مفهومين مجرّدين عن كل شيء حتّى الوجود والعدم ، إذ لو كان الوجود جزءاً له يكون واجب الوجود ، ولو كان العدم جزءاً له يكون ممتنع الوجود ، مع أنّا أفترضاه بكونه ماهيّة ممكنة.

نعم يعرض  : كل من الوجود والعدم للإنسان في رتبة متأخرة عن مقام الذات .
فيقال : الإنسان موجود أو معدوم .
 أما عروض الوجود : فهو رهن وجود العلّة .
 وأما العدم : فيكفي فيه عدم العلة.
صفحه 15

وأما وصف الوجود بالإمكان : فيختلف معناه مع وصف الماهيّة به .
 فيصح قولنا : الإنسان ماهيّة ممكنة ، ونسبة الوجود والعدم إليه متساوية .
ولكن لا يصح قولنا : الوجود المفاض من العلة العليا ، وجود ممكن ، ونسبة الوجود والعدم إليه متساوية ، إذ كيف يتصوّر أنْ تكون نسبة الوجود والعدم إلى الوجود متساوية، مع أنَّ الموضوع هو الوجود، ونسبة الوجود إلى الوجود بالضرورة(1) لا بالإمكان؟!

فلا محيص : من تفسير الإمكان في الوجود بوجه آخر.
 وهو: كونه قائماً بتمام ذاته بالواجب ، ومتدلياً به ، بحيث لو فرض انقطاعه عنه ، لما بقي منه أثر.

ولو أردنا أنْ نوضح المقام بمثال : وان كان بين المثال والممثل فرق واضح  .
لقلنا : إنّ نسبة الوجود الإمكاني بالنسبة إلى الواجب ، كنسبة الصور الذهنية إلى النفس الّتي تصنعها في صقعها ، فهي قائمة بها قيام صدور على نحو لو تغافلت عنها النفس ، لما بقي منها أثر في صفحة الوجود.

فخرجنا بالنتيجة التالية: إنّ الإمكان في الوجود بمعنى كونه قائماً بالعلّة.
________________ :هامش :
1 . يراد بالضرورة، الضرورة الذاتية، لا الضرورة الازلية الّتي من خصائصه سبحانه.
صفحه 16
 

 

الخامس: واقع الوجود الإمكاني هو الفقر :
إنّ الحاجة والفقر : عين حقيقة الوجود الإمكاني لا شيء عارض له ، وإلاّ يلزم أن يكون في حدّ ذاته غنيّاً عرضته الحاجة والفقر، وهو يلازم انقلاب الواجب إلى ممكن ، وهو باطل .
 فلا محيص من القول : بأنّ الفقر والحاجة عين حقيقة الوجود الإمكاني وذاته ، وهذا في مقام التمثيل كالمعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي.

فكما أنّ المعاني الحرفية : متدليات بالذات مفهوماً ووجوداً، لا يمكن تصوّرها مستقلة عن المتعلّق كما لا تتحقق مجرّدة عنه .
 فهكذا الوجود : المفاض عن العلّة، فواقعه القيام بالغير، والتدلّي به، فالفقر ذاته وجوهره والحاجة لبّه وحقيقته، والربط والقيام بالغير، كينونته وتقررّه، لا انّه شيء عرضه الفقر والحاجة والربط .

فالعالم الإمكاني : بأرضه وسمائه ماديّة ومجرّدة، موجودات متدليات قائمات بالغير، وافتراض استغنائها عن العلّة يساوق عدمها.

إذا وقفت على هذه الأُمور : تتجلى لك الحقيقة بأوضح صورها ، وتذعن بأنّ فرض تسلسل العلل والمعاليل إلى غير النهاية ، دون أن يكون بينها ما هو علّة وليس بمعلول ، افتراض غير معقول ، مشتمل على التناقض الصريح في الفرض.
وذلك لأنّ : كل جزء من هذه السلسلة غير المتناهية ، وان كان علّة للمتأخر ومعلولاً للمتقدّم ، لكن ذلك لا يصدنا عن وصفها بأنّها سلسلة موصوفة بالمعلولية ، وأنّه ليس فيها ما لا يكون كذلك ، بأن يكون علّة ولا يكون معلولاً ; إذ عندئذ يلزم انقطاع السلسلة، وهو خلف.
صفحه 17
 

فإذاً المدعى ـ إمكان التسلسل ـ مركب من جزئين:
أ. السلسلة المفروضة موصوفة بالمعلولية.
ب. السلسلة تفقد ما يكون علّة ولا يكون معلولاً.

فنقول: إنَّ الجمع بين هذين الجزأين من المدعى ، جمع بين المتناقضين.
لأنّ افتراض : كونها معلولة ، يلازم كونها وجوداً رابطاً غير غني عن الوجود النفسي حتّى يقوم به.
فكيف : يجتمع هذا الفرض مع الجزء الثاني ، أيْ أنَّ السلسلة تفقد الوجود النفسي، وما هو علّة وليس بمعلول؟!
واشتمال الفرض : على التناقض ، دليل واضح على بطلانه وامتناعه.

وإلى ما ذكرنا من البرهان : يشير العلاّمة الطباطبائي في كتابه القيّم «نهاية الحكمة» .
 ويقول : والتسلسل في العلل محال .
والبرهان عليه :
أنّ وجود المعلول : رابط بالنسبة إلى علّته ، لا يقوم إلاّ بعلته ، والعلّة هو المستقل الّذي يقوّمه .
 وإذا كانت علّته : معلولة لثالث ، وهكذا ، كانت غير مستقلّة بالنسبة إلى ما فوقها .
 فلو ذهبت السلسلة : إلى غير نهاية ، ولم تنته إلى علّة غير معلولة ، تكون مستقلة غير رابطة ، لم يتحقق شيء من أجزاء السلسلة ، لاستحالة وجود الرابط إلاّ مع مستقل .(1)1 . نهاية الحكمة: 168 .
صفحه 18

وحصيلة الكلام : أنّ المعلول في مصطلح الإلهيين هو: ما يكون مفاضاً ـ بمادته وصورته وكل شؤونه ـ من جانب العلّة وقائماً بها، وصادراً عنها.
وهذا يعني : أنّ كلّ حلقة من تلك الحلقات، وكل جزء من تلك السلسلة كان معدوماً فوجد بسبب علّته، وتحقق بجميع شؤونه بفضلها، فبما أنّ أفراد هذه السلسلة برمّتها تتّسم بصفة «المعلولية» كان جميعها متصفاً بالفقر والتعلق بعلته، أي لو أننا سألنا كل حلقة عن كيفية وجودها لأجابتنا ـ بلسان التكوين ـ : بأنّها مفتقرة في وجودها وفي جميع شؤونها إلى العلة الّتي سبقتها، فإذا كان هذا هو لسان حال كل واحدة من حلقات هذه السلسلة، تكون السلسلة برمّتها سلسلة فقر واحتياج، سلسلة تعلّق وارتباط . وعند ذلك يُثار هذا السؤال:

كيف انقلبت هذه السلسلة الفقيرة الفاقدة لكل شيء إلى سلسلة موجودة بالفعل؟! وكيف وجدت هذه السلسلة المرتبطة بحسب ذاتها من دون أن تكون هناك نقطة اتكاء قائمة بنفسها؟!

***
تقرير آخر لامتناع التسلسل :

وهناك تقرير آخر : لبطلان التسلسل ، ربما يكون مفيداً للمتوسطين من طلاب العلوم العقلية.
وحاصله : أنّ فرض صحة التسلسل فرض تحقق قضايا مشروطة ، وإن لم يتحقق شرطه.
صفحه 19
توضيحه : إنّ وجود المعلول الأخير إذا كان مشروطاً بوجود ما يسبقه من العلّة ، وكانت تلك العلّة المتقدّمة مشروطة في وجودها بوجود ما قبلها، واستمر هذا الاشتراط إلى غير النهاية ، تكون النتيجة تصوّر موجودات غير متناهية ، مشروط وجود كل واحد منها بوجود ما قبله ، بحيث إذا سألت كل واحد عن شرط تحقّقه، لأجابك بأنّه لا يتحقّق إلاّ أن يتحقّق ما يتقدّمه ، ولو سألت ما يتقدّمه لأجابك بهذا أيضاً، وهكذا...

فعند ذاك
: تصبح النتيجة هو تصوّر «سلسلة مشروطة» أو قضايا مشروطة غير متناهية لم يتحقّق شيء منها بعد، لعدم تحقّق شرط كل واحد ، فكيف تتحقّق السلسلة مع عدم تحقّق شرطها ؟

وبعبارة أُخرى : لو كان هناك موجود مطلق، وقضية غير مشروطة ، لم يشترط وجودها بشيء ـ كما هو الحال إذا أنهينا السلسلة إلى خالق أزلي ـ فعند ذاك يتحقّق شرط كل حلقة، وقضية ، فتصبح السلسلة موجودة لتحقّق شرط الجميع .
 وأمّا إذا كان الجميع : أُموراً مشروطة وقضايا معلّقة، فبما أنّها لا تتوقّف السلسلة عند حد لا يكون الشرط متحقّقاً، وفي هذه الحالة كيف يتحقّق المشروط بلا تحقّق شرطه.

إن النتيجة في هذه الحالة : هي أن يمتنع تحقّق قضايا مشروطة لا يوجد بينها ـ أو لا تنتهي إلى ـ قضية مطلقة، ولنأت بمثال لتوضيح ذلك:

لو أنّ أحداً : اشترط التوقيع على ورقة بتوقيع شخص آخر، والثاني بتوقيع ثالث ، ثم رابع، وهكذا إلى غير نهاية، فانّ من البديهي انّه لا تُمضى تلك الورقة أبداً، ولا يتمّ التوقيع عليها مطلقاً .
صفحه 20
وهكذا لو أنّ أحداً : اشترط حمل صخرة بحمل شخص آخر لها ومساعدته له، واشترط الثاني حملها بحمل ثالث، والثالث بحمل رابع، وهكذا إلى غير نهاية، فانّ هذه الصخرة لن يتمّ حملها إلى الأبد ، لتسلسل الشرائط، وتوقّف كلّ حمل على حمل يسبقه .

هذا ما سمح به الوقت :  لتقرير هذا البحث بوجه يكون مقنعاً للطبقة العليا والمتوسطة...

نشكر الله سبحانه : على ما رزق المؤسسة ومحققيها من توفيق لتقديم هذا الجزء إلى عشاق العلوم العقلية ، محققاً ومصححاً خالياً عن الغلط والتشويش. ومزداناً بالتعاليق المفيدة، وسيتلوه إن شاء الله الجزء الثالث من الأجزاء الخمسة الّتي سيتم إخراج الكتاب فيها بإذن الله سبحانه.

انّه خير مسؤول ونعم المجيب
جعفر السبحاني
مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)
قم ـ إيران
25 جمادى الآخرة 1426 هـ

 

ملاحظة : هذا البحث وضعناه للفائدة ، ولما فيه من قصة حياة العلامة الطباطبائي مع الشهيد آية الله مطهري ، وعلاقة كتب الموضوع أعلاه آية الله الأستاذ السبحاني حفظه الله .

 

http://www.alanbare.com/almezan
 الميزان في تفسير الميزان
للعلامة محمد حسين الطباطبائي قدس الله نفسه الزكية
استخرج التفسير الموضوعي منه ورتب فهارسه
 وأعد الصفحة للإنترنيت

خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موسوعة صحف الطيبين