بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
الميزان في تفسير
القرآن
للعلامة السيد محمد
حسين الطباطبائي
تفسير سورة البقرة
إعداد للتفسير الموضوعي
تفسير الآيات 30-33
ملاحظة : ما بين القوسين ( )
الهلاليين فهما شرح من معد الصفحة وليس من التفسير .
وسواء : عنوان ، أو غيره ، في داخل التفسير أو بعده ، كتب من معد الصفحة أو لا
.
سورة البقرة من 30-33
{ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) |
|
تفسير سورة البقرة (2)
و هي : (286) مائتان و ست و
ثمانون آية .
الآيات 30 إلى 33 .
الميزان في تفسير القرآن ج1ص 115.
{ وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ
وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ
قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)
وَ
عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ
فَقالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)
قالُوا سُبْحانَكَ
لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
(32)
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ
قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ
وَ
أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) } البقرة .
( في تفسير الآيات 30-33 من سورة البقرة : تجدون يا طيبين ، بحوثا حول سبب إنزال
الإنسان إلى الأرض وجعله خليفة ، و سبب اعتراض الملائكة على خلافته ، وحقائق
الأسماء الحية الغيبية العالية ، التي علمها الله لآدم وجهلتها الملائكة ، فاستحق
بها الخلافة .)
بيان :
الآيات : تنبئ عن غرض إنزال الإنسان إلى الدنيا ، و حقيقة جعل الخلافة في الأرض
، و ما هو
آثارها و خواصها .
و هي : على خلاف سائر قصص القرآن ، لم تقع في القرآن إلا في محل واحد ، و هو
هذا المحل .
الميزان في تفسير القرآن ج1ص 115.
قوله تعالى: { وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ ......} .
سيأتي الكلام : في معنى القول منه تعالى
، و كذا
القول من الملائكة و الشيطان ، إن شاء الله .
( بيان سبب اعتراض الملائكة على وضع خليفة في
الأرض بأنه سيفسد فيها )
قوله تعالى : { قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ
الدِّماءَ، ... } إلى قوله : { ... وَ نُقَدِّسُ لَكَ ... } .
مشعر : بأنهم ، إنما فهموا وقوع الإفساد و سفك الدماء
.
من قوله سبحانه : { إِنِّي جاعِلٌ
فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...} .
حيث إن الموجود الأرضي : بما أنه مادي ، مركب من القوى الغضبية و الشهوية
.
و الدار : دار التزاحم ، محدودة الجهات ، وافرة المزاحمات
.
مركباتها
: في معرض الانحلال .
و انتظاماتها و إصلاحاتها : في مظنة الفساد ، و مصب البطلان
.
لا تتم
الحياة فيها : إلا بالحياة النوعية ، و لا يكمل البقاء فيها إلا بالاجتماع و التعاون
.
فلا تخلو : من الفساد و سفك الدماء .
ففهموا :
من هناك : أن
الخلافة المرادة .
لا تقع : في
الأرض ، إلا بكثرة من الأفراد ، و نظام اجتماعي بينهم ، يفضي بالآخرة إلى الفساد و السفك
.
و الخلافة :
و هي : قيام شيء ، مقام آخر
.
لا تتم إلا : بكون الخليفة حاكيا للمستخلف .
في
جميع : شئونه الوجودية ، و آثاره و أحكامه ، و تدابيره بما هو مستخلف .
و الله سبحانه :
في
وجوده : مسمى بالأسماء الحسنى .
متصف : بالصفات العليا ، من أوصاف الجمال و الجلال .
منزه
: في نفسه عن النقص ، و مقدس في فعله عن الشر و الفساد ، جلت عظمته .
و الخليفة الأرضي :
بما
هو كذلك : لا يليق بالاستخلاف .
و لا يحكي : بوجوده المشوب ، بكل نقص و شين .
الوجود الإلهي
:
المقدس : المنزه عن جميع النقائص ، و كل الأعدام .
فأين : التراب ، و رب الأرباب .
و هذا الكلام : من الملائكة .
في مقام : تعرف به ما جهلوه ، و استيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا
الخليفة .
و ليس : من الاعتراض ، و الخصومة في شيء .
و الدليل : على ذلك .
قولهم : فيما حكاه
الله تعالى عنهم { .. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ..} .
حيث : صدر الجملة ، بأن
التعليلية ، المشعرة بتسلم مدخولها ، فافهم .
فملخص قولهم :
يعود : إلى أن جعل الخلافة .
إنما
هو : لأجل أن يحكي الخليفة مستخلفه ، بتسبيحه بحمده ، و تقديسه له بوجوده .
و ( الحياة ) الأرضية : لا
تدعه يفعل ذلك ، بل تجره إلى الفساد و الشر .
و الغاية : من هذا الجعل ، و هي التسبيح و
التقديس .
بالمعنى : الذي مر من الحكاية ، حاصلة بتسبيحنا بحمدك ، و تقديسنا لك .
فنحن
: خلفاؤك .
أو فاجعلنا : خلفاء لك .
فما فائدة : جعل هذه الخلافة الأرضية لك ؟
الميزان في تفسير القرآن ج1ص 116.
++++
( رد الله اعتراض الملائكة بأن خليفته في
الأرض له علم بأسماء وبحقائقها يسمو )
فرد : الله
سبحانه ذلك عليهم .
بقوله : { .. إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ وَ عَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّه ..}
و هذا السياق : يشعر .
أولا :
بأن الخلافة : المذكورة ، إنما كانت خلافة الله تعالى .
معنى : جعل الخلافة
، و تعليم الأسماء لآدم .
لا خلافة : نوع من الموجود الأرضي
، كانوا في
الأرض قبل الإنسان ، و انقرضوا .
ثم أراد الله تعالى : أن يخلفهم بالإنسان ، كما احتمله بعض
المفسرين .
و ذلك لأن الجواب :
الذي أجاب : سبحانه به عنهم ، و هو تعليم آدم الأسماء
.
لا
يناسب : ذلك .
+
و على هذا : فالخلافة :
غير مقصورة : على شخص آدم عليه السلام ، بل بنوه يشاركونه فيها من
غير اختصاص .
و يكون : معنى تعليم الأسماء .
إيداع : هذا العلم في الإنسان ، بحيث يظهر منه
آثاره ، تدريجا دائما .
و لو اهتدى : إلى السبيل ، أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل
.
و
يؤيد : عموم الخلافة :
قوله تعالى : { إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ
نُوحٍ (69) } الأعراف .
و و قوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ
(14) }
يونس .
و قوله تعالى : { وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ
الْأَرْضِ (62) } النمل .
++
و ثانيا :
إنه سبحانه :
لم ينف : عن خليفة الأرض
، الفساد ، و سفك الدماء
.
و لا كذب : الملائكة
، في دعواهم التسبيح و التقديس .
و قررهم : على ما ادعوا .
بل إنما أبدى : شيئا آخر .
و هو أن
هناك : أمرا لا يقدر الملائكة على حمله ، و لا تتحمله .
و يتحمله : هذا الخليفة الأرضي .
فإنه
يحكي : عن الله سبحانه أمرا ، و يتحمل منه سرا ، ليس في وسع الملائكة
.
و لا محالة : يتدارك
بذلك ، أمر الفساد ، و سفك الدماء .
و قد بدل سبحانه قوله : { قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا
تَعْلَمُونَ } ، ثانيا .
بقوله : { أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ
السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ } .
و المراد بهذا الغيب : هو الأسماء ، لا علم آدم بها .
فإن
الملائكة : ما كانت تعلم ، أن هناك أسماء لا يعلمونها .
لا أنهم :
كانوا : يعلمون وجود أسماء
كذلك ، و يجهلون من آدم أنه يعلمها .
و إلا : لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الأسماء ، وجه
.
و هو : ظاهر .
بل كان : حق المقام ، أن يقتصر بقوله :
{ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم
} .
حتى يتبين
لهم : أن آدم يعلمها ، لا أن يسأل الملائكة عن ذلك .
فإن هذا السياق :
يعطي : أنهم ادعوا
الخلافة ، و أذعنوا انتفاءها عن آدم .
و كان اللازم : أن يعلم الخليفة بالأسماء
.
فسألهم : عن
الأسماء ، فجهلوها ، و علمها آدم .
فثبت : بذلك ، لياقته لها
، و انتفاؤها عنهم .
و قد ذيل
سبحانه السؤال بقوله : { .. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ...} .
و هو مشعر :
بأنهم : كانوا ادعوا شيئا
.
كان لازمه : العلم بالأسماء
.
الميزان في تفسير القرآن ج1ص 117 .
+++
( تعليم آدم الأسماء تعبير عن حقيقة عالية
فوق أنها أسماء لغوية )
و قوله تعالى : { وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ
....} .
مشعر : بأن
هذه الأسماء ، أو أن مسمياتها ،
كانوا موجودات أحياء
عقلاء .
محجوبين : تحت حجاب الغيب .
و
أن العلم : بأسمائهم ، كان غير نحو العلم ، الذي عندنا بأسماء الأشياء .
و إلا كانت
الملائكة : بإنباء آدم إياهم بها ،
عالمين ، و صائرين مثل آدم مساوين معه .
و لم يكن : في ذلك إكرام لآدم ، و لا كرامة .
حيث
: علمه الله سبحانه أسماء ، و لم يعلمهم .
و لو علمهم : إياها ، كانوا مثل آدم ، أو أشرف منه .
و لم يكن : في ذلك ما يقنعهم ، أو يبطل حجتهم .
و أي حجة : تتم في أن يعلم الله تعالى ، رجلا
علم اللغة .
ثم يباهي به : و يتم الحجة على ملائكة مكرمين ، لا يسبقونه بالقول و هم بأمره
يعملون .
بأن هذا : خليفتي ، و قابل لكرامتي دونكم ؟
و يقول تعالى : أنبئوني باللغات .
التي
سوف : يضعها الآدميون بينهم ، للإفهام و التفهيم .
إن كنتم : صادقين في دعويكم ، أو مسألتكم
خلافتي .
على أن كمال اللغة : هو المعرفة بمقاصد القلوب .
و الملائكة : لا تحتاج فيها إلى
التكلم .
و إنما تتلقى المقاصد : من غير واسطة
، فلهم كمال فوق كمال التكلم .
+
و بالجملة
:
فما حصل :
للملائكة من العلم .
بواسطة : إنباء آدم لهم بالأسماء .
هو :
غير ما حصل لآدم من حقيقة
العلم بالأسماء ، بتعليم الله تعالى .
فأحد الأمرين : كان ممكنا في حق الملائكة ، و
في مقدرتهم ، دون الآخر .
و آدم : إنما استحق الخلافة الإلهية ، بالعلم بالأسماء ، دون
إنبائها .
إذ الملائكة : إنما قالوا في مقام الجواب :
{ سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا
ما عَلَّمْتَنا } .
فنفوا :
العلم .
++
( زيادة بيان بأن الأسماء لها حقائق غيبية خارجية
حية عالية و العلم بها يوجب الخلافة الإلهية )
فقد ظهر مما مر :
أن العلم : بأسماء هؤلاء المسميات .
يجب : أن يكون ، بحيث يكشف عن حقائقهم ، و
أعيان وجوداتهم .
دون مجرد : ما يتكفله الوضع اللغوي ، من إعطاء المفهوم .
فهؤلاء : المسميات
المعلومة .
حقائق : خارجية .
و وجودات : عينيه .
و هي مع ذلك : مستورة تحت ستر الغيب ، غيب
السماوات و الأرض .
و العلم بها : على ما هي عليها .
كان أولا : ميسورا ممكنا لموجود أرضي
، لا ملك سماوي .
و ثانيا : دخيلا ، في الخلافة الإلهية .
{
و الْأَسْماءَ } :
في قوله تعالى : { وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها } .
جمع : محلى
باللام ، و هو يفيد العموم ، على ما صرحوا به .
مضافا إلى أنه مؤكد بقوله : { كُلَّها } .
فالمراد بها : كل اسم يقع لمسمى ، و لا تقييد ، و لا عهد .
ثم قوله : { عَرَضَهُمْ } .
دال : على
كون كل اسم .
أي مسماه : ذا حياة و علم .
و هو : مع ذلك ، تحت
حجاب الغيب :
{ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ } .
و إضافة : الغيب إلى السماوات و الأرض .
و إن أمكن : أن يكون في بعض
الموارد .
إضافة : من ، فيفيد التبعيض .
لكن المورد :
و هو : مقام إظهار ،
تمام قدرته تعالى و إحاطته .
و عجز : الملائكة و نقصهم .
يوجب : كون إضافة الغيب
إلى السماوات و الأرض ، إضافة
اللام .
فيفيد : أن الأسماء :
أمور غائبة : عن العالم السماوي و الأرضي ، خارج محيط الكون .
( أي أنه تعالى : يعلم ما هو في مرتبة أعلى من السماوات والأرض ، وهو الخالق لحقائق
الأسماء العالية ، وهي الغائبة عن علم الملائكة وأعلى مرتبة منهم ، و هي أيضا غيب
بالنسبة للسماوات والأرض ، لا أنها من غيب السماوات والأرض على نحو التبعيض ودرجة
في مرتبة السماوات والأرض ، بل هي مرتبة أعلى لا درجة أعلى ، والأسماء وهي لها
حقائق خارجية وحية عالية المرتبة ، هي في مرتبة غيب أعلى من غيب السماوات والأرض لا
أنها منها وفي مرتبتها . توضيح من معد الصفحة )
الميزان في تفسير القرآن ج1ص 118.
+
( تطبيق بين آية علم الأسماء وآية الإنزال
من الخزائن في المعنى والحقيقة الغيبية الحية العالية )
و إذا تأملت : هذه الجهات .
أعني : عموم الأسماء .
و كون : مسمياتها : أولي حياة و علم .
و كونها : غيب السماوات و الأرض
.
قضيت :
بانطباقها : بالضرورة ، على ما أشير إليه .
في قوله تعالى : { وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
} الحجر .
حيث أخبر سبحانه : بأنه ، كل ما يقع عليه اسم شيء .
فله عنده تعالى : خزائن ،
مخزونة
باقية عنده .
غير نافدة : و لا مقدرة بقدر ، و لا محدودة بحد .
و أن القدر و الحد : في
مرتبة الإنزال و الخلق .
و أن الكثرة : التي في هذه الخزائن ، ليست من جنس الكثرة
العددية ، الملازمة للتقدير و التحديد .
بل تعدد : المراتب و الدرجات .
و سيجيء : بعض
الكلام فيها ، في سورة الحجر إن شاء الله تعالى .
+++
فتحصل :
أن هؤلاء : الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة .
موجودات : عالية .
محفوظة : عند الله
تعالى .
محجوبة : بحجب الغيب .
أنزل الله سبحانه : كل اسم في العالم ، بخيرها و بركتها .
و
اشتق : كل ما في السماوات و الأرض ، من نورها و بهائها .
و أنهم : على كثرتهم و تعددهم .
لا
يتعددون : تعدد الأفراد .
و لا يتفاوتون : تفاوت الأشخاص .
و إنما يدور : الأمر هناك .
مدار
: المراتب و الدرجات .
و نزول الاسم : من عند هؤلاء ، إنما هو بهذا القسم من النزول .
++
( العلم بما أبدته الملائكة وما كتمه إبليس من الغيب السماوي والأرضي والغيب العالي تعليم الأسماء )
و قوله تعالى :
{ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
.
و كان هذان القسمان :
من الغيب : النسبي ، الذي هو بعض السماوات و الأرض .
و لذلك قوبل به قوله :
{ أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ }.
ليشمل : قسمي الغيب .
أعني : الخارج عن العالم
الأرضي و السماوي ، و غير الخارج عنه .
و قوله تعالى: { كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } .
تقييد الكتمان بقوله : { كُنْتُمْ }.
مشعر : بأن هناك
أمرا مكتوما ، في خصوص آدم و جعل خلافته .
و يمكن : أن يستظهر ذلك من قوله تعالى .
في
الآية التالية : { فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ
الْكافِرِينَ } .
فيظهر : أن إبليس كان كافرا ، قبل ذلك الحين .
و أن إباءه : عن السجدة ،
كان مرتبطا بذلك ، فقد
كان أضمره هذا .
و يظهر بذلك : أن سجدة
، الملائكة ، و إباء إبليس عنها .
كانت : واقعة بين ، قوله تعالى :{
قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ } .
و بين قوله : { أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } .
و يظهر : السر أيضا .
في تبديل قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ ما لا
تَعْلَمُونَ } ثانيا .
بقوله : { إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ } .
الميزان في تفسير القرآن ج1ص 119.
++++++++
بحث روائي : ( في بيان ما ظهر ونزل من حقائق
الأسماء العالية وشأنها الكريم )
في تفسير العياشي : عن الصادق عليه السلام قال :
ما علم : الملائكة .
بقولهم: { أ تجعل فيها من يفسد
فيها و يسفك الدماء }.
لو لا أنهم : قد كانوا ، رأوا من يفسد فيها و يسفك الدماء .
أقول :
يمكن : أن يشير بها ، إلى دورة في الأرض ، سابقة على دورة بني آدم هذه .
كما وردت : فيه
الأخبار ، و لا ينافي ذلك ما مر .
أن الملائكة : فهمت ذلك ، من قوله تعالى :
{
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً }.
بل لا يتم الخبر : بدون ذلك ، و إلا كان هذا
القول ، قياسا من الملائكة ، مذموما ، كقياس إبليس .
( يا طيب : مر في التفسير للآيات ، تحليل منه قدس سره : بأن السعي في الأرض
والاجتماع الإنساني يوجب التزاحم والطغيان والفساد ، ولذا الملائكة اعترضت وقالت ما
قالت ، وفي الرواية علموا من الخلق السابق أنهم يفسدون ، والمعنيان للتفسير
والرواية : يتمم بعضه البعض ويشرحه .
وهو : بأنه الملائكة ترى ، أن هنا نفس الأحوال والظروف الأرضية السابقة لخلق آدم
وبعد خلقه ، توجب الفساد وسفك الدماء ، لا قياس بدون تحليل واقعي للظروف ، ولا من
غير بيان حقيقي للعلل الموجب للفساد .
ونتم للفائدة :
ولكن الله سبحانه : عرفهم بأن المسألة أعلى ، وهو علم أدم وبنيه بالأسماء العليا ،
أي ما يوجبه تعلمه من الهداية ونزول الخيرات منها بإذن الله تعالى ، وتعلم آدم منها
هداه ودينه والعمل به ، مع وجود هذه الظروف المزاحمة للرفعة والموجبة للطغيان ،
يوجب له كرامة ترفعه على الملائكة الغير مكلفة .
وكأن المعنى كله : مطوي في آية الكرسي ، يشفعون بإذنه ، ويحطون بما يشاء من العلم ، أو كما في سورة إنا أنزلنا : من نزول الروح بكل أمر من علم الله تعالى ، يجب لولي الأمر وإمام العصر والزمان مرتبة عالية من الخلافة ، تجعل من يرتبط به وبآله صلى الله عليهم وسلم ، علم يرفعه على الملائكة ، ويبقى من يطغى ويخرج من نور الفطرة للظلمات ، أي نفس حقيقة الأسماء الحسنى العالية ، يتعلمها ويتحقق بمعانيها ونورها بإذن الله ولي أمر كل زمان ، لأنه الله لا يوحي للكل ، ويتعلم منه باقي العباد فيرتفعوا ويحصلوا على النعيم والخيرات ، وبهم يتم غرض الخلقة والخلافة بمراتبها ، ويخسر من يضل ويطغى . معد الصفحة )
+
و في تفسير العياشي : أيضا عنه عليه السلام ، قال زرارة :
دخلت : على أبي جعفر عليه السلام ،
فقال : أي شيء عندك من أحاديث الشيعة ؟
فقلت : إن عندي منها شيئا كثيرا ، فقد هممت أن أوقد لها نارا
فأحرقها .
فقال عليه السلام : و أرها ، تنسى ما أنكرت منها ؟
فخطر : على بالي الآدميون .
فقال : ما كان
علم الملائكة ، حيث قالوا : { أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ
الدِّماءَ } ؟.
قال : و كان يقول أبو عبد الله عليه السلام :
إذا حدث : بهذا الحديث ، هو كسر على
القدرية .
ثم قال أبو عبد الله عليه السلام : إن آدم عليه السلام كان له في السماء خليل من الملائكة
.
فلما
هبط : آدم من السماء إلى الأرض ، استوحش الملك ، و شكا إلى الله تعالى ، و سأله أن يأذن
له .
فأذن له : فهبط عليه ، فوجده قاعدا في قفرة من الأرض، .
فلما رآه آدم : وضع يده على
رأسه ، و صاح صيحة .
قال أبو عبد الله عليه السلام : يروون أنه أسمع عامة الخلق .
فقال له الملك :
يا آدم ، ما أراك إلا و قد عصيت ربك ، و حملت على نفسك ما لا تطيق .
أ تدري : ما قال لنا
الله فيك ، فرددنا عليه ؟ قال : لا .
قال : قال : { إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } .
قلنا : { أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ } ؟ .
فهو : خلقك أن
تكون في الأرض ، أ يستقيم أن تكون في السماء ؟
قال أبو عبد الله عليه السلام ، و الله ، عزى بها آدم
ثلاثا .
أقول : و يستفاد من الرواية ، أن جنة آدم كانت في السماء ، و سيجيء فيه روايات أخر أيضا
.
( ويا طيب : وعزى بها آدم ثلاث : أي سلاه وبين له ما يخرجه من الحزن ، والثلاث
الظاهر هي : جعله خليفة في الأرض ، وعلمه ما لا تعلمه الملائكة ، واسجد له
الملائكة ، وهو فيه معنى ما يوجب تسخير كل خير تأتي به الملائكة ، كما سيأتي
ومر في الآية 29 البقرة ، والله العالم ، معد الصفحة )
الميزان في
تفسير القرآن ج1ص 120.
+
و في تفسير العياشي أيضا : عن أبي العباس ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال :
سألته
عن قول الله : { وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها } ما ذا علمه ؟
قال عليه السلام : الأرضين و
الجبال ، و الشعاب و الأودية .
ثم نظر : إلى بساط تحته
، فقال : و هذا البساط مما علمه
.
+
و في التفسير أيضا : عن الفضيل بن العباس ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
سألته عن قول الله : { وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها } ما هي ؟
قال عليه السلام : أسماء الأودية و النبات ، و الشجر
و الجبال من الأرض .
+
و في التفسير أيضا : عن داود بن سرحان العطار قال :
كنت : عند أبي عبد الله عليه السلام ، فدعا
بالخوان فتغذينا ، ثم دعا بالطست و الدست سنانه .
فقلت: جعلت فداك، قوله : { وَ عَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها }.
الطست : و الدست سنانه ، منه ؟
فقال عليه السلام : الفجاج و الأودية ، و
أهوى بيده كذا و كذا .
( الطست والدست سنانه : أي بالطشت و الإناء الذي يغسل فيه الأيدي ، أو يغسل به و هو
الأبريق ).
+++
و في المعاني : عن الصادق عليه السلام : إن الله عز و جل ، علم آدم أسماء حججه كلها
.
ثم عرضهم :
و هم أرواح ،
على الملائكة .
فقال : { أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ } .
بأنكم : أحق بالخلافة في الأرض
، لتسبيحكم و تقديسكم ، من آدم .
فقالوا : { سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ } .
قال الله تبارك و تعالى : { يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ } .
فلما
أنبئهم : بأسمائهم ، وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره .
فعلموا : أنهم أحق بأن
يكونوا خلفاء الله في أرضه ، و حججه على بريته .
ثم غيبهم : عن أبصارهم .
و استعبدهم : بولايتهم ، و محبتهم .
و قال لهم : { أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
} .
+
أقول : و بالرجوع إلى ما مر من البيان .
تعرف : معنى هذه الروايات ، و أن لا منافاة بين
هذه ، و ما تقدمها .
إذ قد تقدم :
أن قوله تعالى : { وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا
خَزائِنُهُ } .
تعطي : أنه ما من شيء ، إلا و له وجود في خزائن الغيب .
و إن هذه الأشياء
: التي قبلنا ، إنما وجدت بالنزول من هناك .
و كل اسم : وضع بحيال ، مسمى من هذه المسميات
، فهي اسم لما في خزائن الغيب .
فسواء :
قيل : إن الله علم آدم ما في خزائن غيبه من
الأشياء ، و هي غيب السماوات و الأرض .
أو قيل : إنه علم آدم أسماء كل شيء ، و هي غيب
السماوات و الأرض .
كان المؤدى : و النتيجة واحدا ، و هو ظاهر .
+
( بيان معد الصفحة :
أي بالنظر للآية : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } علم الله آدم أسماء ما في
خزائنه من الأشياء ، وهي بعد في غيب السماوات والأرض .
وبالنظر للآية مورد الشرح : { وعلم آدم الأسماء كلها } علم الله آدم أسماء كل شيء ،
وهي بعد في غيب السماوات والأرض .
فالمعنى واحد : في الآيتين ، والنتيجة واحدة .
وأما عدم التنافي : بين الروايات :
في كون : الروايات الأولى ، تبين تعليم أسماء أشياء نازلة في الأرض وجزئية .
وأن الرواية الأخيرة : تبين تعليم أسماء كلية غيبية عالية ، حتى كانت سبب العلم بها
يستحق الخلافة ، وعلمه آدم وجهلتها الملائكة .
فإن الروايات الأولى : تحكي حقائق جزئية نازلة من نور الحقائق العالية ، وظهور
أرضي لما نزل من الخزائن العالية .
وإن العلم : بالمراتب العالية والعلل ، وهي المتوسطة بين تجلي نور الله سبحانه ،
والمراتب الدانية ، يوجب العلم بمعلولاتها وما يصدر منها .
والعلم : بالمراتب العالية وما يظهر منها ، أوجب خلافة آدم وكرامته ، وهو ما
جهلته الملائكة .
والمراتب العالية : منها خزائن رحمة الله وهي في الغيب ، وما ينزل منها هو عالم
الشهادة .
ولهذه الحقائق وشأنها الكريم : ظهر حسد إبليس للمراتب
العالية ، وعدم سجوده لآدم لما علم من نورهم وجهله ، بل آدم عليه السلام تمنى أن
يكون منهم ولو على نحو الغبطة ، وكان هو حامل من تجلي نورهم بأعلى مرتبة من عالم
السماء وجنته ، لعالم الشهادة ، كما سيأتي بيانه فيه محل ، والآيات من غرر معارف عالم النور ومراتب التجلي والظهور ) .
الميزان في تفسير القرآن
ج1ص 121 .
++
و يناسب المقام عدة من أخبار الطينة :
كما
رواه في البحار : عن جابر بن عبد الله قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم :
أول شيء : خلق الله ، ما
هو ؟
فقال : نور نبيك يا جابر .
خلقه الله : ثم خلق منه كل خير .
ثم أقامه : بين يديه في
مقام القرب ما شاء الله .
ثم جعله : أقساما .
فخلق : العرش من قسم .
و الكرسي : من قسم .
و
حملة : العرش ، و سكنة الكرسي ، من قسم .
و أقام : القسم الرابع ، في مقام الحب ما شاء الله .
ثم جعله أقساما :
فخلق : القلم من قسم .
و اللوح : من قسم .
و الجنة : من قسم .
و أقام : القسم
الرابع ، في مقام الخوف ما شاء الله .
ثم جعله أجزاء :
فخلق : الملائكة من جزء .
و الشمس : من جزء .
و القمر : من جزء .
و أقام : القسم الرابع ، في مقام الرجاء ما شاء الله .
ثم جعله
أجزاء :
فخلق : العقل من جزء .
و العلم و الحلم : من جزء .
و العصمة و التوفيق : من جزء .
و
أقام : القسم الرابع ، في مقام الحياء ما شاء الله .
ثم نظر إليه : بعين الهيبة ، فرشح ذلك
النور .
و قطرت منه : مائة ألف و أربعة و عشرون ألف ، قطرة .
فخلق الله : من كل قطرة ، روح
نبي و رسول .
ثم تنفست : أرواح الأنبياء .
فخلق الله : من أنفاسها ، أرواح الأولياء ، و
الشهداء ، و الصالحين .
+
أقول: و الأخبار في هذه المعاني كثيرة، متظافرة ، و أنت إذا أجلت نظرة التأمل و
الإمعان فيها ، وجدتها شواهد على ما قدمناه .
و سيجيء : شطر من الكلام ، في بعضه .
و إياك
: أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة ، المأثورة عن معادن العلم ، و منابع الحكمة
، بأنها
من اختلاقات المتصوفة و أوهامهم .
فللخلقة : أسرار .
و هو ذا العلماء : من طبقات أقوام
الإنسان ، لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة ، منذ أخذ البشر في الانتشار .
و
كلما لاح لهم : معلوم واحد ، بأن لهم مجاهيل كثيرة .
و هي : عالم الطبيعة أضيق العوالم و أخسها ، فما ظنك بما وراءها ، و هي عوالم النور و السعة .
الميزان في تفسير القرآن ج1ص 122 .
( وسيأتي إن شاء الله : في تفسير الآيات القادمة من سورة البقرة 34-39 ، قصة طغيان إبليس وعدم سجوده لآدم ، وقصة هبوط آدم من جنته في السماء إلى الأرض وتوبته وتتميم بيان غرض خلقته والقصد منها ) .
http://www.alanbare.com/almezan