بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
الميزان في تفسير
القرآن
للعلامة السيد محمد
حسين الطباطبائي
تفسير سورة البقرة [ 2 ]
وهي [ 286 ] آية
تفسير الآية 177 .
الميزان في تفسير القرآن ج1ص 428 .
ملاحظة : ما بين القوسين
( ) الهلاليين شرح من معد الصفحة وليس من التفسير .
سواء : عنوان ، أو غيره ، في داخل التفسير أو بعده ، كتب من معد الصفحة أو لا
.
سورة البقرة من 177.
{ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ |
|
بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ }
(
الميزان في تفسير القرآن ج1ص
[سورة البقرة (2): آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ
لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ
الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ
الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ
وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا
وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
الميزان في تفسير القرآن ج1ص428
بيان
قيل: كثر الجدال و الخصام بين الناس بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة و
طالت المشاجرة فنزلت الآية .
قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ
الْمَغْرِبِ ، البر بالكسر التوسع من الخير و الإحسان ، و البر بالفتح صفة مشبهة
منه ، و القبل بالكسر فالفتح الجهة و منه القبلة و هي النوع من الجهة ، و ذوو
القربى الأقرباء ، و اليتامى جمع يتيم و هو الذي لا والد له ، و المساكين جمع
مسكين و هو أسوأ حالا من الفقير ، و ابن السبيل المنقطع عن أهله ، و الرقاب جمع
رقبة و هي رقبة العبد ، و البأساء مصدر كالبؤس و هو الشدة و الفقر ، و الضراء مصدر
كالضر و هو أن يتضرر الإنسان بمرض أو جرح أو ذهاب مال أو موت ولد ، و البأس شدة
الحرب .
قوله تعالى : { وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ، عدل عن تعريف البر
بالكسر إلى تعريف البر بالفتح ليكون بيانا و تعريفا للرجال مع تضمنه لشرح وصفهم و
إيماء إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق و لا فضل فيه ، و هذا دأب القرآن
في جميع بياناته فإنه يبين المقامات و يشرح الأحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع
ببيان المفهوم فحسب .
و بالجملة قوله وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ،
تعريف للأبرار و بيان لحقيقة حالهم ، و قد عرفهم أولا في جميع المراتب الثلاث من
الاعتقاد و الأعمال و الأخلاق بقوله: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) و ثانيا بقوله:
(أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) و ثالثا بقوله: (وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) .
فأما ما عرفهم به أولا فابتدأ فيه بقوله تعالى : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ
الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ ، و هذا جامع
لجميع المعارف الحقة التي يريد الله سبحانه من عباده الإيمان بها ، و المراد بهذا
الإيمان الإيمان التام الذي لا يتخلف عنه أثره ، لا
الميزان في تفسير القرآن ج1ص429
في القلب بعروض شك أو اضطراب أو اعتراض أو سخط في شيء مما يصيبه مما لا ترتضيه
النفس ، و لا في خلق و لا في عمل ، و الدليل على أن المراد به ذلك قوله في ذيل
الآية (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) فقد أطلق الصدق و لم يقيده بشيء من أعمال
القلب و الجوارح فهم مؤمنون حقا صادقون في إيمانهم كما قال تعالى : { فَلا وَ
رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً:
النساء 68 و حينئذ ينطبق حالهم على المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان التي مر
بيانها في ذيل قوله تعالى إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ:
البقرة 131 .
ثم ذكر تعالى نبذا من أعمالهم بقوله: وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي
الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ
فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ ، فذكر الصلاة و هي حكم عبادي
و قد قال تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ () }
العنكبوت 45 ، و قال : { وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي () } طه 14 ، و ذكر الزكاة
و هي حكم مالي فيه صلاح المعاش و ذكر قبلهما إيتاء المال و هو بث الخير و نشر
الإحسان غير الواجب لرفع حوائج المحتاجين و إقامة صلبهم .
ثم ذكر سبحانه نبذا من جمل أخلاقهم بقوله: وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا
عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ ،
فالعهد هو الالتزام بشيء و العقد له و قد أطلقه تعالى و هو مع ذلك لا يشمل الإيمان
و الالتزام بأحكامه كما توهمه بعضهم لمكان قوله إذا عاهدوا ، فإن الالتزام بالإيمان
و لوازمه لا يقبل التقيد بوقت دون وقت كما هو ظاهر و لكنه يشتمل بإطلاقه كل وعد
وعده الإنسان و كل قول قاله التزاما كقولنا: لأفعلن كذا و لأتركن ، و كل عقد عقد به
في المعاملات و المعاشرات و نحوها ، و الصبر هو الثبات على الشدائد حين تهاجم
المصائب أو مقارعة الأقران ، و هذان الخلقان و إن لم يستوفيا جميع الأخلاق الفاضلة
غير أنهما إذا تحققا تحقق ما دونهما ، و الوفاء بالعهد و الصبر عند الشدائد خلقان
يتعلق أحدهما بالسكون و الآخر بالحركة و هو الوفاء فالإتيان بهذين الوصفين من
أوصافهم بمنزلة أن يقال : إنهم إذا قالوا قولا أقدموا عليه و لم يتجافوا عنه
بالزوال .
و أما ما عرفهم به ثانيا بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ، فهو وصف جامع لجمل
فضائل العلم و العمل فإن الصدق خلق يصاحب جميع الأخلاق من العفة و الشجاعة
الميزان في تفسير القرآن ج1ص430
و الحكمة و العدالة و فروعها فإن الإنسان ليس له إلا الاعتقاد و القول و العمل ، و
إذا صدق تطابقت الثلاثة فلا يفعل إلا ما يقول و لا يقول إلا ما يعتقد ، و الإنسان
مفطور على قبول الحق و الخضوع له باطنا و إن أظهر خلافه ظاهرا فإذا أذعن بالحق و
صدق فيه قال ما يعتقده و فعل ما يقوله و عند ذلك تم له الإيمان الخالص و الخلق
الفاضل و العمل الصالح ، قال تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ () } التوبة 120 ، و الحصر في قوله
أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ، يؤكد التعريف و بيان الحد ، و المعنى و الله أعلم
إذا أردت الذين صدقوا فأولئك هم الأبرار .
و أما ما عرفهم به ثالثا بقوله وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، الحصر لبيان
الكمال فإن البر و الصدق لو لم يتما لم يتم التقوى .
و الذي بينه تعالى في هذه الآية من الأوصاف الأبرار هي التي ذكرها في غيرها .
قال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً
عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَ يُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللَّهِ إلى أن قال وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً: }
الدهر 12 ، فقد ذكر فيها الإيمان بالله و اليوم الآخر و الإنفاق لوجه الله و الوفاء
بالعهد و الصبر ، و قال تعالى أيضا: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي
عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ . إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ إلى أن قال يُسْقَوْنَ مِنْ
رَحِيقٍ مَخْتُومٍ إلى أن قال عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ () }
المطففين 28 ، بالتطبيق بين هذه الآيات و الآيات السابقة عليها يظهر حقيقة وصفهم و
مآل أمرهم إذا تدبرت فيها ، و قد وصفتهم الآيات بأنهم عباد الله و أنهم المقربون ،
و قد وصف الله سبحانه عباده فيما وصف بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطانٌ: الحجر 42 ، و وصف المقربين بقوله: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ .
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ () } الواقعة 12 ، فهؤلاء هم
السابقون في الدنيا إلى ربهم السابقون في الآخرة إلى نعيمه ، و لو أدمت البحث عن
حالهم فيما تعطيه الآيات لوجدت عجبا .
و قد بان مما مر أن الأبرار أهل المرتبة العالية من الإيمان ، و هي المرتبة الرابعة
على ما مر بيانه سابقا ، قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ () } الأنعام
82 .
الميزان في تفسير القرآن ج1ص431
قوله تعالى : { وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ ، منصوب على المدح إعظاما لأمر
الصبر ، و قد قيل إن الكلام إذا طال بذكر الوصف بعد الوصف فمذهبهم أن يعترضوا بين
الأوصاف بالمدح و الذم ، و اختلاف الإعراب بالرفع و النصب .
(بحث روائي) [معنى الأبرار .]
عن النبي ص: من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان .
أقول: و وجهه واضح بما بيناه ، و قد نقل عن الزجاج و الفراء أنهما قالا: إن الآية
مخصوصة بالأنبياء المعصومين لأن هذه الأشياء لا يأتيها بكليتها على حق الواجب فيها
إلا الأنبياء انتهى ، و هو ناش من عدم التدبر فيما تفيده الآيات و الخلط بين
المقامات المعنوية ، و قد أنزلت آيات سورة الدهر في أهل بيت رسول الله ص و سماهم
الله فيها أبرارا و ليسوا بأنبياء .
نعم خطرهم عظيم ، و قد وصف الله حال أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما و قعودا
و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض ، ثم ذكر مسألتهم أن يلحقهم الله
بالأبرار ، قال : { وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ () } آل عمران 193 .
و في الدر المنثور ، أخرج الحكيم الترمذي عن أبي عامر الأشعري قال : قلت:
يا رسول الله ما تمام البر ، قال أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية .
و في المجمع ، عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليه السلام : ذوي القربى قرابة النبي .
أقول: و كأنه من قبيل عد المصداق بالنظر إلى آية القربى .
و في الكافي ، عن الصادق عليه السلام : الفقير الذي لا يسأل الناس و المسكين أجهد
منه و البائس أجدهم .
و في المجمع ، عن أبي جعفر عليه السلام : ابن السبيل ، المنقطع به .
و في التهذيب ، عن الصادق عليه السلام : سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته و قد أدى
بعضها ، قال : عليه السلام يؤدي عنه من مال الصدقة فإن الله عز و جل يقول: وَ فِي
الرِّقابِ .
و في تفسير القمي ،: في قوله: وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ قال
: عليه السلام في الجوع و العطش و الخوف ، و في قوله وَ حِينَ الْبَأْسِ قال :
قال عليه السلام ، عند القتال
الميزان في تفسير القرآن ج1ص432
http://www.alanbare.com/almezan